في يوم التوجيه في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، وصفت د. هبة سالم، المديرة التنفيذية لبرنامج CASA، القاهرة بأنّها مدينة الألف وجه ووجه، لافتةً إلى أنّها مكان فائق التنوع حتى التناقض.
ثم خلال الفصل الدراسي الصيفي، أتيحت لي الفرصة للتعمق في فهم وجهة النظر الشيقة هذه، وذلك بفضل قراءة العديد من المقتطفات من كتبٍ عن القاهرة بالإضافة إلى مقابلاتٍ هامةٍ مع بعض المثقفين المصريين. فمن بين هذه الأنشطة التي لا أكلّ ولا أملّ منها أبداً، استرعت قراءة المقالتين “تفاؤل مع سبق الإصرار والترصد” للكاتب نبيل عمر و”هذه هي قاهرتي المقهورة” للكاتبة نوال السعداوي انتباهي من حيث وجود تأملات في الازدواجية التي تتميز بها مصر، والمقصود بمصر هنا القاهرة.
لذلك، في هذا النص أودّ أن أقارن بين النظريتين المقدمتين في هاتين المقالتين بخصوص ازدواجية القاهرة، مضيفةً بعض المشاهدات الشخصية النابعة من تجربتي في مصر حتى الآن. ففي البداية، سأقدم لكم وصف المدينة من وجهة نظر المؤلفين مع التركيز على وصف الجوانب السلبية والايجابية الخاصة بهذه المدينة. ثم سأسلط الضوء على مشاعر الكاتبين، مشيرةً إلى تأثير المدينة على مشاعر أهلها. وفي النهاية، سأربط بين المقالتين وتجربتي في مصر وأخلص إلى أن الازدواجية هي في صميم روح هذه المدينة.
القاهرة بين الجمال والقبح
يجب أن نفتتح كلامنا بدايةً بأنّنا نؤكد على أنّ القاهرة هي مدينة معقدة للغاية. نتيجة لذلك، ما إن نصل إليها حتى نقع إلى حالة من الارتباك والتشويش والذهول.
في الحقيقة، عندما نطوف بشوارع القاهرة، يمكننا أن نلاحظ كل الجوانب الإيجابية والسلبية، كما هو الحال في معظم المدن الكبرى في العالم. ومع ذلك، فإنّ قراءة هاتين المقالتين تساعد في فهم خصوصيات القاهرة التي تميزها عن أي مكان آخر في العالم، كما يشرح أيضاً الكاتب اليمني د. محمد جامح في مقالته “في القاهرة…ليل لا ينام” قائلاً: “وروما تختلف عن لندن، والأخيرة تختلف عن باريس وبروكسل وبرشلونة، وتلك المدن في كفة والقاهرة في كفة، القاهرة روح التاريخ وسحر الجغرافيا، وملتقى الحضارات”.
فلا يخفى على أحد أنّ القاهرة مدينة مرموقة، ولكن بالنسبة لنوال السعداوي، تحولت المدينة من مكانٍ مجيدٍ في العصور الماضية إلى مكانٍ منحلٍ في الوقت الحاضر. إذن، من ناحية، تبدو القاهرة مدينة “عريقة الأصل والتاريخ والحضارة” ، من حيث اسم “القاهرة”، أي المدينة التي تسود على كل شئ. وفقاً لنوال السعداوي، لا يجب النظر إلى هذه المدينة من جانب كونها جميلة فقط، بل إنّها مدينة قوية أيضاً. وخير دليل على ذلك أنّه نجد فيها قوى الجذب التي “تزيد على القوى الأخرى الطاردة”. لذلك، بالنسبة لهذه المفكرة البارزة، القاهرة من القوة والعظمة بحيث تحسبها “عملاقة كبيرة”، إنّ جاز التعبير. ومن ناحية أخرى، تصف نوال السعداوي القاهرة بأنها مدينة مقهورة ولاهية وأنها فقدت لغتها الأم. وفي هذا السياق، من الجدير بالذكر أنّ الانتقادات الصارخة لهذه المدينة لا تقتصر على سرد الجوانب السلبية السطحية من قبيل التلوث والازدحام والضجيج فقط، بل إنها تمتد إلى تحليل جذور مشاكل المدينة المرتبطة بحكامها الذين يقهرون شعبها ظلماً وجوراً منذ زمانٍ بعيدٍ، قائلةً :”أدركت السر في حزن المدينة، في غضبها المكبوت ضد حكامها في الداخل والخارج”.
بالمقابل، ركز الكاتب نبيل عمر في مقالته “تفاؤل بسبق الإصرار والترصد” على وصف ملامح القاهرة بطريقة واقعية، دون أن يعبأ بالمسائل السياسية. بناء على ذلك، ينتقد نبيل عمر التكدس والزحام والضجة والضجيج وطوابير الناس في كل نواصي الشوارع وغيرها. ناهيك عن ذلك، يرثي نبيل الانحلال الثقافي وتدهور نظام التعليم في مصر عامةً. والقائمة مع أمثلة لعيوب القاهرة تطول..
إذن، من قراءة مقالته بوسعنا أن نستنتج بأنّ القبح هو جزء لا يتجزاْ من القاهرة فعلينا العثور على التفاؤل مع سبق الإصرار والترصد لأنّ السر يكمن في قدرتنا على اكتشاف الجمال، كما يشير فريد الأطرش، المطرب الأشهر من نارٍعلى علمٍ في مصر وفي جميع البلاد العربية: “الحياة حلوة بس نفهمها” أو، بالأحرى، “مصر حلوة بس نفهمها”.
كذلك، في هذه المدينة التي تتأرجح بين الجمال والقبح، بكل تأكيد توجد حيوية فريدة من نوعها. ومن هذه الحيوية تنطلق مشاعر متناقضة للغاية
القاهرة بين الحب والبغض
على الرغم من امتداد القذارة بطول البلاد وعرضها ، تبدو نوال السعداوي مفتونة بمصر بشدة. والذي يُعزز هذا الافتراض أنّها تنوي دائماً العودة إليها “كما تعود الطفلة إلى حضن الأم”. ولا ننسى هنا أن الرغبة في العودة إلى مصر منتشرة بين شخصياتٍ بارزةٍ عديدةٍ. مثال على ذلك، الفنانة المصرية من أصل إيطالي داليدا تعلن في أغنيتها “حلوة يا بلدي”: “أملي دايماً كان يا بلدي، إني أرجعلك يا بلدي وأفضل دايماً جنبك على طول”.
فمهما كانت القاهرة مقهورة وحزينة ومظلومة، للدرجة أنّها أصبحت “مكانٌ جهنميٌ” لبعض الناس، لا ينطفئ لهيب الحب لهذه المدينة المغرية أبداً.
لذا، في كتابة نوال السعداوي نجد هذا التباين في المشاعر: الشوق والعشق والشغف في كفة، وفي كفة أخرى نجد الكراهية والبغض واليأس. انطلاقاً من ذلك، يمكن القول إنّ الكاتبة تكتشف حبها للقاهرة من خلال كرهها لها، لأنّه مثلما يقول المثل العربي الشهير: “إنما يُعرف الشئ بضده”. فلا نفهم الحب إلاّ حينما نشعر بالكراهية ولا نفهم الأمل إلاّ حينما نشعر بالإحباط ولا نفهم الفرح إلاّ حينما نشعر بالحزن. وهكذا دواليك…
كذلك تظهر علاقة نوال السعداوي الحميمية بهذه المدينة جليةً، إذ ندرك أنّ الحب والكراهية هما وجهان لعملة واحدة.
بينما تصر نوال السعداوي على المشاعر المتناقضة النابعة من القاهرة، يفضل نبيل عمر اقتراح تطوير موقفاً إيجابياً لمواجهة تحديات هذه المدينة المزدوجة. بناء على ذلك، يؤمن نبيل كل الإيمان بأنّنا نستطيع أن نشعر بالحب نحو القاهرة بالذات، مهما كانت المدينة مكتظة بالتحديات والعيوب. بالتالي هذه المقالة بمثابة دعوةٍ عامةٍ للناس إلى التفاؤل، تحت حجة أنّ البشاشة والإشراق والاستبشار بالمستقبل يمثل اختياراً يومياً متاحاً لجميع البشر. من هنا، يختلف الكاتب مع نظرية “ما فيش فايدة” جملةً وتفصيلاً، لأنه موقنٌ بأنّ التشاؤم لا يجدي أبداً. على العكس من ذلك، إنّه يؤدي إلى طريقٍ مسدودٍ أو،على الأصح، إلى حلقةٍ مفرغةٍ لا تنتهي. باختصار، بالنسبة لنبيل عمر، التشاؤم والوجوم والسوداوية أمرٌ مرفوضٌ تماماً وإننا نتحمل المسؤولية من أجل اكتشاف الجمال.
من ازدواجية الملامح إلى ازدواجية المشاعر
في الختام، من الأهمية بمكان أن نؤكد على أنّ هاتين المقالتين تساعدان في فهم القاهرة وازدواجيتها، لكن بطرق مختلفة. بينما تعبر نوال السعداوي عن حزنها وغضبها بسبب القبح في المدينة، يدعو نبيل عمر إلى التفاؤل. ومع ذلك، يتفق الكاتبان على أن هذه المدينة تؤثر تأثيراً قوياً على أهلها الذين لا يمكن لهم إلا أن يشعروا بمشاعر متناقضة تسبب وجود ما يسمى مرض ’الانفصام الشخصي‘.
وأنا أيضاً، بحكم تجربتي في مصر طوال السنوات الماضية، أعتبر القاهرة مدينة متميزة بهذه الازدواجية التي تنعكس على شخصية سكانها ومشاعرهم.. وأنا أتأمل الآن في مشاعري التي تتأرجح ما بين الحب إلى القاهرة وكرهها، تتردد في ذهني كلمات الشاعر البديع سيد حجاب
“هنا القاهرة الساحرة الآسِرة الهادرة الساهرة الساترة السافرة هنا القاهرة الزاهرة العاطرة الشاعرة النيرة الخيرة الطاهرة
This text was written in the framewok of the classes of the CASA@AUC Pogram (2023-2024) and revised by Professor Montasser Qaffash before presenting it as part of my candidacy to the Waheed Samy Contest for Excellence in Arabic Writing (Apil 2024)